ظل طفولتنا الممتد
الطفل
الصغير يريد أن يتكلم ولكنه بلا صوت، كان يريد أن يتعلم كيف يختبر نبرة صوته عندما
يفرح ، أو يغضب، أو يتألم، أو يندهش، ولكنه
كان متعجبا من قدرته على كتمان صوته وكبته، حتى كان لا يصدر أي نوع من التعبير،
ولا يتذكر متى بدأ بكاءه يعود للداخل، ومتى كلامه يأخذ شكل الصمت، ومتى بدأت
رغباته تأخذ شكل ما يرضي الكبار، ولكن هناك حيث زاوية غرفته الصغيرة، كان يختبئ جيدا
ليختبر صوته المكتوم، ربما خلف الباب،
ربما خلف ظهر الجدة أو الجد أو حتى في دورة المياه مع صوت الماء، ويكبر وهو
راضيا عن قدرته على إظهار ما يرغب به الآخرون ، بغض النظر عن ما يشعر به حقيقة،
وعندما تواجهه تلك الآلام كان يعجز عن
التحدث لكنه يجد نفسه يبكي ويبحث عن مخبأ،
كأنما يعود للمرحلة الأولى من حياته تلك التي كان فيها فقط يبكي ليعبر عن جوعه أو
حزنه أو ألمه أو خوفه، إنه البكاء الدرس الوحيد الذي لا نتعلمه بل نقوم به عن ظهر
دموع لقد كتم صوته الخوف والتجارب المؤلمة ولم يجد فرصة للتمرن على التعبير، عندما
نشعر بمحاصرة الألم لنا ،في داخل كل منا طفل صغير مختبئ لا يظهر إلا عندما نعود
لتلك الأوقات التي عجزنا فيها أن نتعلم أو نفهم شيئا ما، لحظة الاستسلام للألم،
لوم الذات، الشك في الذات، الشعور بالضعف، تلمس النقص، الخوف من البدء بالتجربة، يقول
مورغان سكوت في كتابه (الطريق الأقل ارتيادا) الحياة رحلة من المعاناة والمشكلات
التي تؤلمنا لا تقل معاناة عن الألم الجسدي، ونحن كبشر طبيعتنا تميل
الى تجنب الألم التي تثيره المشكلات بداخلنا، وكلما تجنبنا وهربنا وجدنا رصيد من
المعاناة النفسية الداخلية يرتفع دون أن نشعر، فهل نستسلم ؟
عندما
كنا صغارا كنا نشك في حقيقة ادراكنا لان الكبار بالنسبة لنا أكثر صحة مما ندركه وبعدما
نكبر نرتاح لاعتقادنا أننا ندرك العالم على حقيقته، ولكن علم النفس وعلم الاعصاب
يقول اننا ندرك العالم وفق ما نتوقعه وما نرغب به لان تجاربنا السابقة دفعتنا الى
توقعها أو رغبتنا فعلت ذلك.
اقرأ
الجملة التالية:
باريس
في
في الربيع
غالبا
قرأت الجملة (باريس في الربيع) ولكن إذا تأملتها فستجد (في) مكررة مرتين، لأننا لا
نتوقع رؤيتها مرتين، بل مرة واحدة، من كتاب (لا تصدق كل ما تفكر به لتوماس كيدا)،
وهكذا نحن عندما نظن أننا امتلكنا حرية الاختيار والتفكير فنحن مجرد نتاج تراكمات
معرفية وتجارب مررنا بها!
إن
أحد المخارج المتاحة من حتمية معاناتنا المرافقة لنا منذ
طفولتنا، المختبئة خلف المواقف الصعبة، هي قدرتنا على الإيمان بحرية اتخاذنا
القرار تجاه ما نعانيه في تلك المواقف، تلك الحرية التي تعطينا الرغبة في الثقة والثقة
التي تعطينا العزيمة لمحاولة الفهم
والادراك الذي لن يجعل للألم فرصة ان يستقر بداخل اعماقنا دائما ذلك لأن معناه
وتأثيره لن يكون ثابتا ومستقرا بل قابلا للتأويل والتعديل والنمو والتغيير، هل
سيكون غريبا اذا كان طريق التحرر من الألم هو عبر الذهاب إليه بدلا من مقاومته، ما
لذي تخفيه هذه الالام خلفها وما لذي تحاول التهامه من إيجابيات، وهل سيستمر ذلك
الطفل بالهرب من مواجهة عجزه عن التعبير أم أنه يوما سيقرر التوقف والانتظار
والتواصل مع ما يشعر به ويفكر به، مع الوعي بأعجوبة دماغنا وغرابته وحقيقة انه رغم
امتلاكه القدرات الهائلة، إلا إنه قد يصبح السجن الذي نعيش فيه وهم أفكارنا وحدود
إمكانياتنا وظل مخاوفنا الممتد من ماضينا القديم، إن قدرتنا على التعبير عن ما
نعانيه أو نشعر به أو نفكر به هو العتبة
الأولى لهز تلك الجذور الراسخة في أرض حياتنا، فمالم نختبر ما نؤمن به
من معتقدات حول ذواتنا والعالم والمستقبل سنظل سجناء لأفكار ذلك الطفل الذي دوما
يريد أن يقودنا نحو الهرب والاختباء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق